الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ رُوحَ الْمَدْيُونِ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: سَأَلْت أَبِي رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ اسْتَدَانَ دَيْنًا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ فَتَلِفَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ وَأَصَابَهُ بَعْضُ حَوَادِثِ الدُّنْيَا فَصَارَ مُعْدِمًا لَا شَيْءَ لَهُ فَهَلْ يُرْجَى لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرٌ وَخَلَاصٌ مِنْ دَيْنِهِ إنْ مَاتَ عَلَى عُدْمِهِ وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَهُ؟ فَقَالَ هَذَا عِنْدِي أَسْهَلُ مِنْ الَّذِي اخْتَانَ وَإِنْ مَاتَ عَلَى عُدْمِهِ فَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ . فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُحْتَمَلُ الْعِقَابُ وَالتَّرْكُ وَاَللَّهُ يُعَوِّضُ الْمَظْلُومَ إنْ شَاءَ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَيَدَعُ بَعْضًا . وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه وَالْأَصْحَابُ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ , وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَوْنِ سَبَبِهِ مُحَرَّمًا أَوْ لَا , وَبَيْنَ التَّائِبِ لِامْتِنَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ أَوْ دِينَارَانِ وَلَمْ يَخْلُفْ وَفَاءً حَتَّى ضَمِنَهَا أَبُو غِذَاء كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهَا . وَالظَّاهِرُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَصْدُ الْخَيْرِ وَنِيَّةُ الْأَدَاءِ , وَأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ . وَعِنْدَنَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ . وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي إجْمَاعًا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ , مَعَ أَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ لِإِثْمِ ذَلِكَ الذَّنْبِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَفِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ مَا نَصُّهُ: وَأَنَا أَقُولُ الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ فَرْعٌ عَلَى الْمُطَالَبَةِ فِي الدُّنْيَا , وَكُلُّ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ فِي الدُّنْيَا فَلَا ثَبَاتَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ . وَمَنْ خَلَفَ مَالًا وَوَرِثَهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي الْقَضَاءِ وَالدَّيْنُ كَانَ مُؤَجَّلًا , فَالنَّائِبُ عَنْهُ يَقْضِي مُؤَجَّلًا وَالذِّمَّةُ عِنْدِي بَاقِيَةٌ وَلَا أَقُولُ الْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَعْيَانِ , وَلِهَذَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ , وَيَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ بِبَقَاءِ حُكْمِ الذِّمَّةِ , فَلَا وَجْهَ لِمُطَالَبَةِ الْآخِرَةِ . فَقِيلَ لَهُ الَّذِي امْتَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ مُعْسِرًا ; لِأَنَّهُ سَأَلَ هَلْ خَلَفَ وَفَاءً فَقِيلَ لَا , وَقَدْ أَجَّلَ الشَّرْعُ دَيْنَ الْمُعْسِرِ أَجَلًا حَكِيمًا بِقَوْلِهِ (فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ) ثُمَّ أَجَّلَهُ حَالَ الْحَيَاةِ لَمْ يُوجِبْ بَقَاءَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى شَهِدَ الشَّرْعُ بِارْتِهَانِهِ , فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: تِلْكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِلْمٌ بِأَنَّهُ كَانَ مُمَاطِلًا بِالدَّيْنِ ثُمَّ افْتَقَرَ بَعْدَ الْمَطْلِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ , فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُ . وَقَضِيَّةُ الْأَعْيَانِ إذَا اُحْتُمِلَتْ وَقَفَتْ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْأَصْلِ الْمُسْتَقِرِّ لِأَجْلِهَا , وَالْأَصْلُ الْمُسْتَقِرُّ هُوَ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ مُوَسَّعٍ لَا يَحْصُلُ بِتَأْخِيرِهِ فِي زَمَانِ السَّعَةِ وَالْمُهْلَةِ نَوْعُ مَأْتَمٍ , بِدَلِيلِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا يَأْثَمُ بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ التَّأْخِيرِ وَالْإِمْكَانِ مِنْ الْأَدَاءِ . وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ فِي مَسْأَلَةِ صَرْفِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ: الْغَارِمُ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ فِي وَقْتٍ فِي الْأَوْقَاتِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ , فَاعْتُبِرَ الْقُدْرَةُ لَا الْمُطَالَبَةُ . وَمِثْلُهُ قَوْلُ غِذَاء فَإِنَّهُ قَالَ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخَبَرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ تُكَفِّرُ غَيْرَ الدَّيْنِ . هَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَهَاوَنَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ وَأَمَّا مَنْ اسْتَدَانَ دَيْنًا وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ صَرْفٍ وَلَا تَبْذِيرٍ ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْهُ قَضَاؤُهُ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقْضِيهِ عَنْهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ . انْتَهَى . وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَرَّمٍ بِقَصْدِ الْأَدَاءِ وَعَجَزَ إلَى أَنْ مَاتَ فَإِنَّهُ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَتَّى وَلَوْ صَرَفَهُ فِي مُبَاحٍ , وَفِي كَوْنِهِ صَرِيحًا أَوْ ظَاهِرًا نَظَرٌ . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْحَابِ . وَعِنْدَ الْقَاضِي غِذَاء وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي يَعْلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْدِ وَجَمَاعَةٍ لَا يُطَالَبُ بِهِ . وَظَاهِرُ إطْلَاقِ كَلَامِهِمْ وَلَوْ صَرَفَهُ فِي مُحَرَّمٍ أَوْ أَتْلَفَهُ عَبَثًا وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادِهِمْ , اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ . ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ مُفْلِحٍ صَرَّحَ بِأَنَّ إنْفَاقَهُ فِي إسْرَافٍ وَتَبْذِيرٍ لَيْسَ سَبَبًا فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ خِلَافًا غِذَاء , مَعَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِنْفَاقِهِ فِي وَجْهٍ غَيْرِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . وَأَمَّا مَنْ أَخَذَهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ وَعَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ وَلَوْ نَدِمَ وَتَابَ فَهَذَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ . وَلَمْ نَرَ مَنْ ذَكَرَ خِلَافَ هَذَا مِنْ مُتَقَدِّمِي الْأَصْحَابِ , وَظَاهِرُهُ وَلَوْ أَنْفَقَهُ فِي مُبَاحٍ أَوْ مَطْلُوبٍ . نَعَمْ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الرِّعَايَةِ أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ وَنَدِمَ وَتَابَ لَا يُطَالَبُ بِهِ . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَنْ كَلَامِ صَاحِبِ الرِّعَايَةِ: إنَّهُ غَرِيبٌ بَعِيدٌ لَمْ أَجِدْ بِهِ قَائِلًا , وَإِنْ احْتَجَّ أَحْمَدُ لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا فَالْجَوَابُ الْحُكْمُ الْمَعْلُومُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ كَذَا فَأَقَرَّ بِهِ أُلْزِمَ بِأَدَائِهِ , وَأَنَّهُ لَوْ أَجَابَ بِأَنْ قَالَ تُبْت مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُنِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ , وَأَنَّهُ لَوْ قَبِلَ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ وَبَطَلَتْ الْحُقُوقُ , وَلِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ . وَمَنْ أَخَذَهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَا يُمْنَعُ مِنْ طَلَبِهِ بِهِ وَإِلْزَامِهِ بِهِ إجْمَاعًا , فَهَذَا أَوْلَى لِظُلْمِهِ . وَأَمَّا إنْ أَنْفَقَهُ وَأَتْلَفَهُ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ الْقَوْلُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُجَازَى عَلَيْهِ وَلَا أَنَّهُ يَتْبَعُ بِهِ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ ; لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَكْلِيفِهِ وَدُخُولِهِ النَّارَ بِتَحْمِيلِهِ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِ الْمَالِ . وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا صَغِيرًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ , فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حَرْقِهِ وَغَرَقِهِ مِنْ الْمَصَائِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(الثَّالِثُ) تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مَا لَمْ يُعَايِنْ التَّائِبُ مَلَكَ الْمَوْتِ , وَقِيلَ مَا دَامَ مُكَلَّفًا . كَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَالْآدَابِ , وَقِيلَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ; لِأَنَّ الرُّوحَ تُفَارِقُ الْقَلْبَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ فَلَا يَبْقَى لَهُ نِيَّةٌ وَلَا قَصْدٌ صَحِيحٌ . فَإِنْ جُرِحَ جُرْحًا مُوحِيًا صَحَّتْ , وَالْمُرَادُ مَعَ ثَبَاتِ عَقْلِهِ لِصِحَّةِ وَصِيَّةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما وَاعْتِبَارِ كَلَامِهِمَا . وَفِي الْكَافِي: تَصِحُّ وَصِيَّةُ مَنْ لَمْ يُعَايِنْ الْمَوْتَ وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ . قَالَ: لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ وَالْوَصِيَّةُ قَوْلٌ . قُلْت: وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ يَظْهَرُ لَك مَا أَفْتَيْت بِهِ سَنَةَ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ وَقَدْ طَبَقَ الطَّاعُونُ الْمَمْلَكَةَ الشَّامِيَّةَ بَلْ وَالْمِصْرِيَّةَ وَالرُّومِيَّةَ وَغَيْرَهَا حَتَّى لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ إلَّا الْقَلِيلُ , فَرُفِعَ إلَيْنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ الْمُحْتَضِرِينَ كَلِمَاتٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ بِحَيْثُ لَوْ صَدَرَتْ مِنْ الصَّحِيحِ قُضِيَ بِرِدَّتِهِ فَكَيْفَ تَقُولُ فِيمَنْ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَمُرْتَدٌّ هُوَ أَوْ لَا؟ فَأَفْتَيْت بِأَنَّ الْمُحْتَضِرَ إذَا وَصَلَ إلَى حَالَةٍ تَمْنَعُ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْ الْعَاصِي , وَالْإِسْلَامِ مِنْ الْكَافِرِ , فَصَدَرَ مِنْهُ كَلِمَةٌ تَخْرُجُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَخْرُجْ بِهَا عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ , وَلَوْ اُعْتُدَّ بِأَقْوَالِهِ لَقُبِلَ إسْلَامُهُ مَعَ تَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى قَبُولِهِ . وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي حَالَةٍ يُؤَاخَذُ بِهَا بِالْكُفْرِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِيهَا الْإِسْلَامُ مَعَ تَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى الْإِسْلَامِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهِ . وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهَذَا غَيْرَ أَنَّهُ ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَبُولُ التَّوْبَةِ تَفَضُّلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا , وَتَحْبَطُ الْمَعَاصِي بِهَا , وَالْكُفْرُ بِالْإِسْلَامِ , وَالطَّاعَةُ بِالرِّدَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَوْتِ , وَلَا تَحْبَطُ طَاعَةٌ بِمَعْصِيَةٍ غَيْرِ الرِّدَّةِ الْمَذْكُورَةِ . وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ الصَّدَقَةَ . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَحْبَطُ طَاعَةٌ بِمَعْصِيَةٍ إلَّا مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ , فَيَتَوَقَّفُ الْإِحْبَاطُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ غِذَاء: الْكَبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ . وَلَكِنْ قَدْ تُحْبِطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ , وَاخْتَارَهُ أَيْضًا فِي مَكَانٍ آخَرَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَاحْتَجَّ بِإِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى . وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: كَفَّارَةُ الشِّرْكِ التَّوْحِيدُ , وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
(الرَّابِعُ) مَنْ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فَهَلْ تُغْفَرُ خَطِيئَتُهُ فَقَطْ أَمْ تُغْفَرُ وَيُعْطَى بَدَلَهَا حَسَنَةً . ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْأَوْلَى وَهُوَ حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ خَاصَّةً . وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا قوله تعالى قَالَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا . وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ غِذَاء وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ . وَالثَّانِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ قَالَهُ سَلْمَانُ رضي الله عنه وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنُ مَهْرَانَ: يُبَدِّلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِ إذَا غَفَرَهَا لَهُ حَسَنَاتٍ حَتَّى إن الْعَبْدَ يَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ سَيِّئَاتُهُ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ . وَعَنْ الْحَسَنِ كَالْقَوْلَيْنِ . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا , رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا , فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ فَيُقَالُ عَمِلْت يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ , وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ , فَيُقَالُ لَهُ إنَّ لَك مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَيَقُولُ رَبِّ قَدْ عَمِلْت أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هُنَا . فَلَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَهَذَا الْحَدِيثُ فِي رَجُلٍ خَاصٍّ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّوْبَةِ , فَيَجُوزُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هَذَا بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ بِتَوْبَتِهِ وَلَا غَيْرِهَا , كَمَا يُنْشِئُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ , فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ لِلْقَوْلَيْنِ , وَالْأَوَّلُ يُوَافِقُهُ ظَوَاهِرُ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ , وَلَا ظُهُورَ فِيهَا لِلْقَوْلِ الثَّانِي , فَكَيْفَ يُقَالُ بِتَبْدِيلٍ خَاصٍّ بِلَا دَلِيلٍ خَاصٍّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلظَّوَاهِرِ , لَا يُقَالُ كِلَاهُمَا تَبْدِيلٌ , فَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي فَقَدْ قَالَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ لَا عُمُومَ فِيهِ , فَإِذَا قِيلَ بِتَبْدِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ يُوَافِقُهُ ظَوَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ أَوْلَى . وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ أَوْ لِمَنْ بَالَغَ بِأَنْ عَمِلَ صَالِحًا . فَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ لِكُلِّ تَائِبٍ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ , وَفِي الْآيَةِ وَظَوَاهِرُ الْأَدِلَّةِ مَا يُخَالِفُهُ . قُلْت: وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ غِذَاء وَاللَّفْظُ لَهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَرَأَيْت مَنْ عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إلَّا أَتَاهَا فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ فَهَلْ أَسْلَمْت؟ قَالَ فَأَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ , قَالَ تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ يَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ لَك خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ . قَالَ وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ , فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى " فَهَذَا أَيْضًا شَخْصٌ لَا عُمُومَ فِيهِ عِنْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَمَنْ نَحَا نَحْوَ قَوْلِهِ . وَاخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ غِذَاء رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ أَنَّ تَبْدِيلَ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِظَاهِرِ آيَةِ الْفُرْقَانِ , وَلِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الرَّجُلِ الَّذِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: التَّائِبُ عَمَلُهُ أَعْظَمُ عَنْ عَمَلِ غَيْرِهِ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ مَكَانَ سَيِّئَاتِ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ فَهَذَا دَرَجَتُهُ بِحَسْبِ حَسَنَاتِهِ , فَقَدْ يَكُونُ أَرْفَعَ مِنْ التَّائِبِ إنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَرْفَعَ , وَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ سَيِّئَاتٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَهَذَا نَاقِصٌ , وَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ فَهَذَا التَّائِبُ الَّذِي اجْتَهَدَ فِي التَّوْبَةِ وَالتَّبْدِيلِ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ وَالْمُجَاهَدَةِ مَا لَيْسَ لِذَلِكَ الْبَطَّالِ , وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَقْدِيمَ السَّيِّئَاتِ وَلَوْ كُفْرًا إذَا تَعَقَّبَهَا التَّوْبَةُ الَّتِي يُبَدِّلُ اللَّهُ فِيهَا السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتُ نَقْصًا بَلْ كَمَالًا . ا ه . وَلَا يَخْفَى عَلَيْك مَا يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ لُزُومِ أَنَّ مَنْ كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ جِدًّا ثُمَّ تَابَ مِنْهَا وَقُلْنَا إنَّهَا تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ أَنَّهُ يَكُونُ أَرْفَعَ مَنْزِلَةً مِنْ الَّذِي لَمْ يُسِئْ قَطُّ , وَحَسَنَاتُهُ أَكْثَرُ مِنْ حَسَنَاتِ هَذَا التَّائِبِ حَيْثُ لَا تَبْدِيلَ , وَالتَّائِبُ أَكْثَرُ حَسَنَاتٍ بَعْدَ التَّبْدِيلِ . وَقَدْ عَلِمْت الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ رضي الله عنه , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
(الْخَامِسُ) فِي ذِكْرِ بَعْضِ أَخْبَارٍ نَبَوِيَّةٍ وَأَحَادِيثَ مُحَمَّدِيَّةٍ وَآثَارٍ سَلَفِيَّةٍ فِي فَضْلِ التَّوْبَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . قَدْ عَلِمْت أَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا , وَأَنَّ الذُّنُوبَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: تَرْكُ وَاجِبٍ فَعَلَيْك أَنْ تَقْضِيَهُ أَوْ مَا أَمْكَنَك مِنْهُ , أَوْ ذَنْبٌ بَيْنَك وَبَيْنَهُ تَعَالَى كَشُرْبِ الْخَمْرِ فَتَنْدَمُ عَلَيْهِ وَتُوَطِّنُ الْقَلْبَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ أَبَدًا , أَوْ ذَنْبٌ بَيْنَك وَبَيْنَ الْعِبَادِ , وَهَذَا أَشْكَلُهَا وَأَصْعَبُهَا , وَهَذَا يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا لِأَنَّهُ إمَّا فِي الْمَالِ أَوْ النَّفْسِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ فِي الْحُرْمَةِ أَوْ الدِّينِ بِأَنْ كَفَّرَهُ أَوْ بَدَّعَهُ . فَمَا كَانَ فِي الْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ الِاسْتِحْلَالِ مِنْهُ , فَإِنْ تَعَذَّرَ لِغَيْبَةِ الرَّجُلِ أَوْ مَوْتِهِ فَوَارِثُهُ مَقَامَهُ , وَإِلَّا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ , فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الْحَسَنَاتِ , وَمَرَّ مَا يُفْهَمُ عَنْهُ جَمِيعُ ذَلِكَ , وَالتَّوْبَةُ مِنْ الْجَمِيعِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ , وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ اهْتِمَامًا . وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ أَنَّهُ قَالَ: دَعَوْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَلَاثِينَ سَنَةً أَنْ يَرْزُقَنِي تَوْبَةً نَصُوحًا ثُمَّ تَعَجَّبْت فِي نَفْسِي وَقُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ حَاجَةٌ دَعَوْت اللَّهَ فِيهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا قُضِيَتْ إلَى الْآنَ فَرَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ قَائِلًا يَقُولُ لِي أَتَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ أَتَدْرِي مَاذَا تَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى؟ إنَّمَا تَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُحِبَّك , أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى , وَقَالَ تَعَالَى وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَنَذْكُرُ مِنْهَا هُنَا طَرْفًا فَنَقُولُ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ غِذَاء عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا " . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ تَابَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ " . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غِذَاء وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إنَّ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ لَبَابًا مَسِيرَةُ عَرْضِهِ أَرْبَعُونَ عَامًا أَوْ سَبْعُونَ سَنَةً فَتَحَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلتَّوْبَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَلَا يُغْلِقُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ " . وَرَوَى أَبُو يَعْلَى غِذَاء بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ , سَبْعَةٌ مُغْلَقَةٌ وَبَابٌ مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ " . وَابْنُ غِذَاء بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ السَّمَاءَ ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ عَلَيْكُمْ " . وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا " مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُهُ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ " . وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَابْنُ غِذَاء عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ , وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ " . .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " إنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ يَا رَبُّ إنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي , فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ . ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ وَرُبَّمَا قَالَ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ يَا رَبُّ إنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي , قَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ . ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ وَرُبَّمَا قَالَ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ يَا رَبُّ إنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي , فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَقَالَ رَبُّهُ: غَفَرْت لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ " قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَا دَامَ كُلَّمَا أَذْنَبَ ذَنْبًا اسْتَغْفَرَ وَتَابَ مِنْهُ وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ فَلْيَفْعَلْ إذَا كَانَ هَذَا دَأْبَهُ مَا شَاءَ ; لِأَنَّهُ كُلَّمَا أَذْنَبَ كَانَتْ تَوْبَتُهُ وَاسْتِغْفَارُهُ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ فَلَا يَضُرُّهُ " لَا أَنَّهُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ ثُمَّ يُعَاوِدُهُ فَإِنَّ هَذِهِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ . انْتَهَى . وَلَا يَخْفَى مَا فِي مَفْهُومِ كَلَامِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَأَقْلَعَ عَنْهُ وَعَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ أَبَدًا ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ , وَالصَّوَابُ خِلَافُهُ , بَلْ حُكْمُهُ فِي الْقَبُولِ وَالْغُفْرَانِ كَمَا لَوْ عَاوَدَ ذَنْبًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي تَابَ مِنْهُ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَابَ وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ , وَهَذَا ظَاهِرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ غِذَاء وَابْنُ غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ قَالَ فِي إحْدَاهُمَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ , فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ غِذَاء صُقِلَ مِنْهَا , وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يُغْلَقَ بِهَا قَلْبُهُ فَذَلِكَ غِذَاء الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْغَرْغَرَةُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَشْرُوبُ فِي الْفَمِ وَيُرَدَّدُ إلَى أَصْلِ الْحَلْقِ وَلَا يُبْلَعَ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا وَأَخْرَجَ غِذَاء بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ غَيْرَ أَنَّ عَطَاءً لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا غِذَاء فَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا رَجُلًا لَمْ يُسَمَّ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا " عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْت , وَاذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَشَجَرٍ , وَمَا عَمِلْت مِنْ سُوءٍ فَأَحْدِثْ لَهُ تَوْبَةً , السِّرُّ بِالسِّرِّ , وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ " . وَرَوَى غِذَاء عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " إذَا تَابَ الْعَبْدُ عَنْ ذُنُوبِهِ أَنْسَى اللَّهُ حَفَظَتَهُ ذُنُوبَهُ , وَأَنْسَى ذَلِكَ جَوَارِحَهُ وَمَعَالِمَهُ مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ بِذَنْبٍ " وَرَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا . وَصَنِيعُ الْحَافِظِ غِذَاء يُشْعِرُ بِضَعْفِهِ ; لأنه أُورِدَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ . وَأَخْرَجَ ابْنُ غِذَاء غِذَاء كِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ " وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا غِذَاء مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ " وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنْ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ " وَقَدْ رُوِيَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مَوْقُوفًا وَلَعَلَّهُ أَشْبَهُ . وَرِجَالُ غِذَاء رِجَالُ الصَّحِيحِ لَوْلَا الِانْقِطَاعُ . وَقَدْ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بِشَوَاهِدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " النَّدَمُ تَوْبَةٌ " وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا . وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ وَهُوَ سَاقِطٌ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَرْفُوعًا " مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً عَلَى ذَنْبٍ إلَّا غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ مِنْهُ " . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ غِذَاء رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ , فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ لَا , فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ الْمِائَةَ . ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ , فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ مَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ! انْطَلِقْ إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا , فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إلَى أَرْضِك فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ , فَانْطَلَقَ حَتَّى إذَا نَصَّفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ , فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ , فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَنَا تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ , فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ , فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ , فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ . وَفِي رِوَايَةٍ فَكَانَ إلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا . وَفِي رِوَايَةٍ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَإِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَقَالَ قِيسُوا بَيْنَهُمَا فَوَجَدُوهُ إلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ " وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ غِذَاء قَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَا أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ نَأَى بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا , وَعِنْدَ غِذَاء بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَرْفُوعًا: فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى دَيْرِ التَّوَّابِينَ بِأُنْمُلَةٍ فَغُفِرَ لَهُ . وَرَوَاهُ غِذَاء أَيْضًا بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَذَكَرَ إلَى أَنْ قَالَ " ثُمَّ أَتَى رَاهِبًا آخَرَ فَقَالَ إنِّي قَتَلْت مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ أَسْرَفْت وَمَا أَدْرِي وَلَكِنْ هَا هُنَا قَرْيَتَانِ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَصْرَةُ , وَالْأُخْرَى يُقَالُ لَهَا غِذَاء , فَأَمَّا أَهْلُ نَصْرَةَ فَيَعْمَلُونَ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَثْبُتُ فِيهَا غَيْرُهُمْ , وَأَمَّا أَهْلُ غِذَاء فَيَعْمَلُونَ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ لَا يَثْبُتُ فِيهَا غَيْرُهُمْ , فَانْطَلِقْ إلَى أَهْلِ نَصْرَةَ فَإِنْ ثَبَتَّ فِيهَا وَعَمِلْت عَمَلَ أَهْلِهَا فَلَا شَكَّ فِي تَوْبَتِك , فَانْطَلَقَ يُرِيدُهَا حَتَّى إذَا كَانَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ , فَسَأَلَتْ الْمَلَائِكَةُ رَبَّهَا عَنْهُ فَقَالَ اُنْظُرُوا إلَى أَيِّ الْقَرْيَتَيْنِ كَانَ أَقْرَبَ فَاكْتُبُوهُ مِنْ أَهْلِهَا . فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى نَصْرَةَ بِقَيْدِ أُنْمُلَةٍ فَكُتِبَ مِنْ أَهْلِهَا " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي وَاَللَّهِ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلَاةِ , وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا , وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا , وَإِذَا أَقْبَلَ إلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْت إلَيْهِ أُهَرْوِلُ " . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ غِذَاء وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ غِذَاء رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " مَنْ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شِبْرًا تَقَرَّبَ إلَيْهِ ذِرَاعًا , وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ ذِرَاعًا تَقَرَّبَ إلَيْهِ بَاعًا . وَمَنْ أَقْبَلَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَاشِيًا أَقْبَلَ إلَيْهِ مُهَرْوِلًا , وَاَللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ , وَاَللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ , وَاَللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ " لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ عَنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى , شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ . فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك , أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ فِي أَرْضٍ غِذَاء مُهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ فَطَلَبَهَا حَتَّى إذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ , قَالَ أَرْجِعُ إلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْت فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ , فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَشَرَابُهُ , فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ " . قَوْلُهُ " فِي أَرْضٍ غِذَاء " غِذَاء بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ جَمِيعًا هِيَ الْفَلَاةُ الْقَفْرُ وَالْمَفَازَةُ . قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: وَلَيْسَ فِي أَنْوَاعِ الْفَرَحِ أَكْمَلُ وَلَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْفَرَحِ , وَلَوْلَا الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ لِلتَّوْبَةِ وَلِأَهْلِهَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْفَرَحُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ وُجُودَ الْمُسَبَّبِ بِدُونِ سَبَبِهِ مُمْتَنِعٌ , وَهَلْ يُوجَدُ مَلْزُومٌ بِدُونِ لَازِمِهِ أَوْ غَايَةٌ بِدُونِ وَسِيلَتِهَا . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا ابْتَلَى بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَيْهِ . فَالتَّوْبَةُ هِيَ غَايَةُ كَمَالِ كُلِّ آدَمِيٍّ. وَإِنَّمَا كَانَ كَمَالُ أَبِيهِمْ بِهَا , فَكَمْ بَيْنَ حَالِهِ , وَقَدْ قِيلَ لَهُ فَوَازِنْ إذًا بَيْنَ هَذَيْنِ غِذَاء , وَانْظُرْ مَا يَعْقُبُ غِذَاء الظَّفَرِ بِالذَّنْبِ وَلَا يَعْرِفُ بِالذَّنْبِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْزَانِ وَالْهُمُومِ وَالْمَصَائِبِ . فَمَنْ يَشْتَرِي فَرْحَةَ سَاعَةٍ بِغَمِّ الْأَبَدِ , وَانْظُرْ مَا يَعْقُبُ فَرَحَ الظَّفَرِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْ الِانْشِرَاحِ الدَّائِمِ وَالنَّعِيمِ وَطِيبِ الْعَيْشِ , وَوَازِنْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثُمَّ اخْتَرْ مَا يَلِيقُ بِك وَيُنَاسِبُك , وَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ , وَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي أَمَالِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ , مِنْ الضَّالِّ الْوَاجِدِ , وَمِنْ الظَّمْآنِ الْوَارِدِ " . رَوَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ غِذَاء غِذَاء فِي كِتَابِ التَّائِبِينَ عَنْ أَبِي الْجَوْنِ مُرْسَلًا " لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ مِنْ الظَّمْآنِ الْوَارِدِ , وَمِنْ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ , وَمِنْ الضَّالِّ الْوَاجِدِ . فَمَنْ تَابَ إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا أَنْسَى اللَّهُ حَافِظَيْهِ وَجَوَارِحَهُ وَبِقَاعَ الْأَرْضِ كُلَّهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبَهُ " وَرَوَى غِذَاء بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا " مَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَقِيَ غُفِرَ لَهُ مَا مَضَى , وَمَنْ أَسَاءَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذَ بِمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ " . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا " إذَا عَمِلْت سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا . قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ الْحَسَنَاتِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ هِيَ أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ " . وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ مَا كُنْت , وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا , وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ " وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . .
بِتَرْكِ اخْتِيَارِ ذَنْبٍ سَبَقَ مِثْلُهُ مِنْهُ مَنْزِلَةً لَا صُورَةً (السَّادِسُ) عَرَّفَ بَعْضُهُمْ التَّوْبَةَ بِتَرْكِ اخْتِيَارِ ذَنْبٍ سَبَقَ مِثْلُهُ مِنْهُ مَنْزِلَةً لَا صُورَةً تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحَذَرًا مِنْ سَخَطِهِ , فَشَمِلَ هَذَا التَّعْرِيفُ أَرْبَعَ أُمُورٍ (التَّوْبَةَ): الْأَوَّلُ: تَرْكُ الِاخْتِيَارِ لِلْمُذْنِبِ بِأَنْ يُوَطِّنَ قَلْبَهُ وَيُجَرِّدَ عَزْمَهُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إلَى الذَّنْبِ أَلْبَتَّةَ . فَأَمَّا إنْ تَرَكَ الذَّنْبَ وَفِي نَفْسِهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ أَوْ يَتَرَدَّدُ فِي الْعَوْدِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَائِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ . الثَّانِي: أَنْ يَتُوبَ عَنْ ذَنْبٍ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ مِثْلُهُ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَ لَهُ ذَنْبٌ فَهُوَ مُتَّقٍ غَيْرُ تَائِبٍ . الثَّالِثُ: إنَّ الَّذِي سَبَقَ يَكُونُ مِثْلَ مَا يَتْرُكُ اخْتِيَارَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ لَا فِي الصُّورَةِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِي الْهَرِمَ الَّذِي قَدْ كَانَ سَبَقَ مِنْهُ الزِّنَا وَقَطْعٌ لِلطَّرِيقِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ عَنْ ذَلِكَ تُمْكِنُهُ التَّوْبَةُ وَتُقْبَلُ مِنْهُ تَوْبَتُهُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُغْلَقْ عَنْهُ بَابُهَا , مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ اخْتِيَارِ الزِّنَا وَقَطْعِ الطَّرِيقِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ , فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ تَارِكٌ لَهُ مُمْتَنِعٌ عَنْهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ فِعْلِهِ لَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مَا هُوَ مِثْلُ الزِّنَا وَقَطْعِ الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ كَالْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ إذْ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعَاصٍ , وَإِنْ تَفَاوَتَ الْإِثْمُ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ وَمَعْصِيَةٍ بِقَدْرِهَا وَلَكِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَاصِي الْفَرْعِيَّةِ كُلِّهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ دُونَ مَنْزِلَةِ الْبِدْعَةِ , وَمَنْزِلَةُ الْبِدْعَةِ دُونَ مَنْزِلَةِ الْكُفْرِ , فَإِنْ كَانَتْ الْبِدْعَةُ مُكَفِّرَةً اتَّحَدَتْ مَنْزِلَتُهَا مَعَ الْكُفْرِ . فَظَهَرَ أَنَّ الْمَنَازِلَ ثَلَاثَةٌ: مَنْزِلَةُ الْكُفْرِ , وَمَنْزِلَةُ الْبِدَعِ , وَمَنْزِلَةُ الْمَعَاصِي . ثُمَّ إنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَسَّمُ إلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ . وَلِلْكَبَائِرِ مِنْهَا الْمُوبِقَاتُ السَّبْعُ , وَهِيَ قَتْلُ النَّفْسِ وَالزِّنَا وَأَكْلُ الرِّبَا وَالسِّحْرُ وَالْقَذْفُ وَأَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ . قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَتَصِحُّ تَوْبَةُ مَنْ عَجَزَ عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ كَتَوْبَةِ الْأَقْطَعِ عَنْ السَّرِقَةِ . وَالزَّمِنِ عَنْ السَّعْيِ إلَى حَرَامٍ , وَالْمَجْبُوبِ عَنْ الزِّنَا . وَمَقْطُوعِ اللِّسَانِ عَنْ الْقَذْفِ , وَالْمُرَادُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا تَابَ مِنْهُ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ , وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ عَنْ عَزْمِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهَا . انْتَهَى . الرَّابِعُ: كَوْنُ التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ تَعْظِيمًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِتَائِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُرَاءٍ أَوْ خَائِفٌ , فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا تَوْبَةً نَصُوحًا تُمْحَى بِهَا الْأَوْزَارُ , وَنَرْتَقِي مِنْهَا إلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ , مَعَ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ . إنَّهُ التَّوَّابُ الْغَفَّارُ . لَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ . وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ رحمه الله تعالى أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي النُّصْحِ إيفَاءً بِمَا وَعَدَ فِي أَوَّلِ مَنْظُومَتِهِ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ سَأَبْذُلُهَا جُهْدِي الْبَيْتَ , فَقَالَ: وَهَا قَدْ بَذَلْت النُّصْحَ جَهْدِي وَإِنَّنِي مُقِرٌّ بِتَقْصِيرِي وَبِاَللَّهِ أَهْتَدِي (وَهَا) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ , وَتَدْخُلُ فِي ذَا وَذِي , تَقُولُ هَذَا وهذي , وَهَا تَكُونُ اسْمًا لِفِعْلٍ وَهُوَ " خُذْ " وَيُمَدُّ , وَيُسْتَعْمَلَانِ بِكَافِ الْخِطَابِ , وَيَجُوزُ فِي الْمَمْدُودَةِ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ الْكَافِ بِتَصْرِيفِ هَمْزَتِهَا تَصَارِيفَ الْكَافِ , هَاءً لِلْمُذَكَّرِ , وَهَاءً لِلْمُؤَنَّثِ , وهاؤما وَهَاؤُمُ وهاؤن . وَمِنْهُ قوله تعالى ثُمَّ أَخَذَ يُثْنِي عَلَى مَنْظُومَتِهِ بِبَعْضِ مَا هِيَ أَهْلُهُ وَجَمِيلِ بَعْضِ أَوْصَافِهَا فَقَالَ: تَقَضَّتْ بِحَمْدِ اللَّهِ لَيْسَتْ ذَمِيمَةً وَلَكِنَّهَا كَالدُّرِّ فِي عِقْدِ خُرَّدِ (تَقَضَّتْ) هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ الْفَائِقَةُ بِالْمَعَانِي الرَّائِقَةِ (بِحَمْدِ اللَّهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (لَيْسَتْ) هِيَ (ذَمِيمَةً) الذَّمُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ضِدُّ الْمَدْحِ , يُقَالُ ذَمَّهُ ذَمًّا وَمَذَمَّةً فَهُوَ مَذْمُومٌ وَذَمِيمٌ , وَبِئْرٌ ذَمِيمَةٌ قَلِيلَةُ الْمَاءِ وَغَزِيرَةٌ مِنْ بَابِ الْأَضْدَادِ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ لَيْسَتْ حَقِيرَةً (لَكِنَّهَا) مَمْدُوحَةُ الْمَعَانِي , فَائِقَةُ الْمَبَانِي كُلُّ مَنْ تَحَلَّى بِحِفْظِهَا وَإِدْرَاكِ مَعَانِيهَا زَانَتْهُ وَأَكْسَبَتْهُ بَهْجَةً وَرَوْنَقًا (كَالدُّرِّ) النَّفِيسِ (فِي عِقْدِ) نِسَاءٍ غِيدٍ حِسَانٍ (خُرَّدٍ) جَمْعُ خَرِيدَةٍ وَهِيَ الْبِكْرُ الَّتِي لَمْ تُمْسَسْ , أَوْ الْخَفْرَةُ الطَّوِيلَةُ السُّكُوتِ , الْخَافِضَةُ الصَّوْتِ , فَكَمَا تَزْدَادُ الْخُرَّدُ بِالدُّرِّ جَمَالًا عَلَى جَمَالِهَا . وَكَمَالًا عَلَى كَمَالِهَا , فَمَنْ تَحَلَّى بِهَذِهِ الْمَنْظُومَةِ يَزْدَادُ بِهَا كَمَالًا . أَوْ أَنَّ نَظْمَهَا فِي الْحُسْنِ وَالِاتِّسَاقِ وَالْجَوْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ كَنَظْمِ الدُّرِّ الَّذِي أَحْكَمَتْ الْخُرَّدُ نَظْمَهُ وَتَأْلِيفَهُ وَأَجَادَتْ تَنْفِيذَهُ وَتَرْصِيفَهُ . وَالْعِقْدُ بِالْكَسْرِ: الْقِلَادَةُ وَالْجَمْعُ: عُقُودٌ . يُحَيَّرُ لَهَا قَلْبُ اللَّبِيبِ وَعَارِفِ كَرِيمَانِ إنْ جَالَا بِفِكْرِ مُنَضَّدِ (يحير لَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْمَنْظُومَةِ . يُقَالُ تَحَيَّرَ وَاسْتَحَارَ إذَا نَظَرَ إلَى الشَّيْءِ فَغَشِيَ وَلَمْ يَهْتَدِ لِسَبِيلِهِ فَهُوَ حَيْرَانُ وحاير وَهِيَ حَيْرَى وَهُمْ حَيَارَى وَيُضَمُّ , وَحَارَ الْمَاءُ تَرَدَّدَ , والحاير مُجْتَمَعُ الْمَاءِ وَحَوْضٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ مَسِيلُ مَاءِ الْأَمْطَارِ . يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْمَنْظُومَةَ لَا تَنْسَاقُ مَبَانِيهَا , وَبَلَاغَةُ مَعَانِيهَا , إذَا نَظَرَ إلَيْهَا الْإِنْسَانُ دُهِشَ وَحَارَ , وَإِنَّمَا يُدْرِكُ ذَلِكَ فيحير لَهَا (قَلْبُ اللَّبِيبِ) الْعَاقِلِ (وَ) يحير لَهَا أَيْضًا قَلْبُ رَجُلٍ (عَارِفٍ) بِالنَّظْمِ وَلِلْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ , وَمَعَانِي الْكَلَامِ , وَمَفْهُومِ النِّظَامِ , وَالْمَعْرِفَةُ تُرَادِفُ الْعِلْمَ إلَّا أَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ , وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ وَيَخُصُّهَا بَعْضُ النَّاسِ بِالْبَسَائِطِ أَوْ الْجُزْئِيَّاتِ , وَلِهَذَا لَا تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ بِخِلَافِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ وَلَا يُقَالُ لَهُ عَارِفٌ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَعْرِفَةُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الْعِلْمُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مَعَ الصِّدْقِ لِلَّهِ فِي مُعَامَلَاتِهِ . وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ التَّحْرِيرِ: يُطْلَقُ الْعِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ , وَهِيَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِلْمٌ مُسْتَحْدَثٌ أَوْ انْكِشَافٌ بَعْدَ لَبْسٍ أَخَصُّ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُسْتَحْدَثِ وَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى , وَيَشْمَلُ الْمُسْتَحْدَثَ وَهُوَ عِلْمُ الْعِبَادِ . وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا يَقِينٌ وَظَنٌّ أَعَمُّ مِنْ الْعِلْمِ لِاخْتِصَاصِهِ حَقِيقَةً بِالْيَقِينِ . قَالَ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَارِفٌ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . حَكَاهُ الْقَاضِي إجْمَاعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . هُمَا يَعْنِي اللَّبِيبَ وَالْعَارِفَ (كَرِيمَانِ) لَا لَئِيمَانِ فَإِنَّ الْكَرِيمَ وَاسِعُ الْخُلُقِ صَفُوحٌ عَنْ الزَّلَلِ , غَيْرُ مُتَتَبِّعٍ لِلْخَلَلِ , وَاللَّئِيمُ بِضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ (إنْ جَالَا) مِنْ جَالَ فِي الْحَرْبِ جَوْلَةً وَفِي الطَّوَافِ . وَالْمُرَادُ هُنَا إنْ أَمْعَنَا (بِفِكْرٍ) بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ هُوَ إعْمَالُ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ كَالْفِكْرَةِ وَالْفِكْرَى , وَالْجَمْعُ أَفْكَارٌ وَتَقَدَّمَ (مُنَضِّدِ) مُتَتَابِعٍ يُقَالُ نَضَّدَ مَتَاعَهُ يُنَضِّدُهُ جَعَلَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ كنضده فَهُوَ مَنْضُودٌ وَنَضِيدٌ وَمُنَضَّدٌ , أَوْ أَرَادَ بِفِكْرٍ مُقِيمٍ مُحْكَمٍ , يُقَالُ انتضد بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ , وَهَذَا أَنْسَبُ , أَوْ بِفِكْرٍ غَزِيرٍ مُتَرَاكِمٍ , فَإِنَّ النَّضَدَ مِنْ السَّحَابِ مَا تَرَاكَمَ وَتَرَاكَبَ . وَعَلَى كُلٍّ فَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا اللَّبِيبُ وَالْعَارِفُ يحيران وَيَدْهَشَانِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ مِنْ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ . وَالْمَسَائِلِ الْأَنِيقَةِ , وَالْأَحْكَامِ الْوَثِيقَةِ , وَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ , وَالْآثَارِ الصَّرِيحَةِ , وَالْكَلِمَاتِ الْفَصِيحَةِ , مَعَ وَجَازَةِ لَفْظِهَا , وَانْسِجَامِ نَظْمِهَا , وَعُذُوبَةِ كَلِمَاتِهَا , وَسُهُولَةِ أَبْيَاتِهَا . وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَنْ تُعْدَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ ; لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْكُرَمَاءِ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . فَمَا رَوْضَةٌ حُفَّتْ بِنَوْرِ رَبِيعِهَا بِسَلْسَالِهَا الْعَذْبِ الزُّلَالِ الْمُبَرَّدِ (فَمَا) نَافِيَةٌ حِجَازِيَّةٌ وَ (رَوْضَةٌ) اسْمُهَا وَبِأَحْسَنَ خَبَرُهَا . وَالرَّوْضَةُ غِذَاء بِالْكَسْرِ مِنْ الرَّمْلِ وَالْقُشُبِ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ فِيهِمَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ . وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ " كُلُّ مَكَانٍ فِيهِ نَبَاتٌ مُجْتَمِعٌ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلَا يَكُونُ إلَّا فِي ارْتِفَاعٍ . وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مَاءٍ , وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ النَّاظِمِ (حُفَّتْ) هِيَ (بِنَوْرِ) بِالْفَتْحِ وكرمان هُوَ الزَّهْرُ مُطْلَقًا أَوْ الْأَبْيَضُ مِنْهُ , وَأَمَّا الْأَصْفَرُ فَزَهْرٌ وَالْجَمْعُ أَنْوَارٌ , يُقَالُ نَوَّرَ الشَّجَرُ تَنْوِيرًا خَرَجَ نَوْرُهُ . أَيْ فَمَا رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ حُفَّتْ بِمَعْنَى مُطْبِقٍ وَمُحِيطِ نَوْرٍ (رَبِيعِهَا) أَيْ الرَّوْضَةِ بِأَحِفَّتِهَا . وَمِنْهُ قوله تعالى قَالَ فِي الْقَامُوسِ: سَلْسَلَ كجعفر وَخَلْخَالُ الْمَاءِ الْبَارِدِ أَوْ الْعَذْبِ كَالسُّلَاسِلِ بِالضَّمِّ , وَسَلْسَلَ الْمَاءَ جَرَى فِي حُدُورٍ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ (الْعَذْبِ) أَيْ الْمُسْتَسَاغِ وَاسْتَعْذَبَ أَيْ اسْتَسْقَى عَذْبًا (الزُّلَالِ) كَغُرَابِ (الْمُبَرَّدِ) أَيْ الْبَارِدِ ضِدَّ الْحَارِّ , وَالزُّلَالُ وَالزَّلِيلُ كَأَمِيرٍ , وَالزَّلُولُ كَصَبُورٍ هُوَ السَّرِيعُ الْمَرُّ فِي الْحَلْقِ أَيْ الْبَارِدُ وَالْعَذْبُ الصَّافِي السَّهْلُ السَّلِسُ , وَيُقَالُ زلائل كعلابط . قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ . وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ غِذَاء: الزُّلَالُ بِضَمِّ الزَّايِ دُودٌ يَتَرَبَّى فِي الثَّلْجِ وَهُوَ مُنَقَّطٌ بِصُفْرَةٍ يَقْرُبُ مِنْ الْأُصْبُعِ يَأْخُذُهُ النَّاسُ مِنْ أَمَاكِنِهِ لِيَشْرَبُوا مَا فِي جَوْفِهِ لِشِدَّةِ بَرْدِهِ وَلِذَلِكَ يُشَبِّهُ النَّاسُ الْمَاءَ الْبَارِدَ بِالزُّلَالِ , لَكِنْ فِي الصِّحَاحِ مَاءٌ زُلَالٌ أَيْ عَذْبٌ . قَالَ أَبُو الْفَتْحِ غِذَاء مِنْ عُلَمَائِنَا فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ: الْمَاءُ الَّذِي فِي دُودِ الثَّلْجِ طَهُورٌ . وَهَذَا وَيُوَافِقُ أَنَّهُ الدُّودُ . نَعَمْ الْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنَّ الزُّلَالَ هُوَ الْمَاءُ الْبَارِدُ . قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ غِذَاء بْنُ سَعِيدِ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ: وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي الْفِرَاسِ بْنِ حَمْدَانَ: قَدْ كُنْت عُدَّتِي الَّتِي أَسْطُو بِهَا وَيَدِي إذَا اشْتَدَّ الزَّمَانُ وَسَاعِدِي فَرَمَيْت مِنْك بِضِدِّ مَا أَمَّلْته وَالْمَرْءُ يَشْرَقُ بِالزُّلَالِ الْبَارِدِ وَقَالَ آخَرُ: وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مَرِيضٍ يَجِدْ مُرًّا بِهِ الْمَاءِ الزُّلَالَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ وَجِيهِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْمُطَاعِ بْنِ حَمْدَانَ رحمه الله تعالى: قَالَتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زَارَنِي وَمَضَى بِاَللَّهِ صِفْهُ وَلَا تُنْقِصْ وَلَا تَزِدْ فَقُلْت: أَبْصَرْته لَوْ مَاتَ مِنْ ظَمَأٍ وَقُلْت: قِفْ عَنْ وُرُودِ الْمَاءِ لَمْ يَرِدْ قَالَتْ صَدَقْت غِذَاء فِي الْحُبِّ عَادَتُهُ يَا بَرْدَ ذَاكَ الَّذِي قَالَتْ عَلَى كَبِدِي . فَهَذَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهِ يَشْهَدُ أَنَّهُ الْمَاءُ , وَقَدْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْقَامُوسِ كَمَا عَلِمْت , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . فَمَا هَذِهِ الرَّوْضَةُ بِهَذِهِ الْأَزْهَارِ وَالنَّوَارِ وَالْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ الزُّلَالِ: بِأَحْسَنَ مِنْ أَبْيَاتِهَا وَمَسَائِلُ أَحَاطَتْ بِهَا يَوْمًا بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ (بِأَحْسَنَ) مَنْظَرًا , وَأَبْهَجَ مَرًْاى , وَأَتَمَّ رَوْنَقًا (مِنْ أَبْيَاتِهَا) أَيْ أَبْيَاتِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ الَّتِي هِيَ مُشَبَّهَةٌ بِالرَّوْضَةِ الْمَعْلُومَةِ . (وَ) لَا زَهْرُهَا وَنَوْرُهَا وَمَاؤُهَا الْعَذْبُ الزُّلَالُ وَسَلْسَالُهَا الَّذِي أَرْبَى عَلَى الجربال بِأَحْسَنَ لَوْنًا وَأَعْذَبَ مَسَاغًا وَأَلَذَّ طَعْمًا وَأَسْهَلَ وُصُولًا وَأَسْلَسَ انْحِدَارًا فِي الْحَلْقِ مِنْ (مَسَائِلَ) جَمْعُ مَسْأَلَةٍ وَهِيَ مَا يُبَرْهَنُ عَنْهُ لِإِفَادَةِ الْعِلْمِ (أَحَاطَتْ) هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ (بِهَا) أَيْ بِالْمَسَائِلِ الْمَخْدُومَةِ , وَالْأَحْكَامِ الْمَعْلُومَةِ , وَالْآثَارِ الْمَأْثُورَةِ , وَالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ , وَالْآدَابِ الْمَطْلُوبَةِ , وَالْمَعَانِي الْمَجْلُوبَةِ , وَالْمُخَدَّرَاتِ الْمَخْطُوبَةِ , وَالْخَرَائِدِ الْمَحْبُوبَةِ (يَوْمًا) أَيْ لَمْ تَكُنْ الرَّوْضَةُ بِأَزْهَارِهَا ونوارها وَمَائِهَا يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ أَحْسَنَ وَلَا أَبْهَجَ وَلَا أَلْطَفَ مِنْ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ بِمَسَائِلِهَا وَآدَابِهَا وَأَخْبَارِهَا وَأَسْرَارِهَا (بِغَيْرِ تَرَدُّدِ) فِي ذَلِكَ . بَلْ الْمَنْظُومَةُ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَسْرَارِ , وَالْأَحْكَامِ وَالْآثَارِ , أَتَمُّ حُسْنًا وَأَبْهَجُ مَنْظَرًا مِنْ الرَّوْضَةِ الْمَذْكُورَةِ . عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ الْمَخْبُورَةِ , وَالْعُقُولِ الْمَشْهُورَةِ , وَالْآرَاءِ الْمَنْصُورَةِ . كَيْفَ لَا وَتِلْكَ عَنْ قَرِيبٍ يُصَوَّعُ نَوْرُهَا , وَيَذْهَبُ حُبُورُهَا , وَتَنْطَمِسُ أَنْهَارُهَا , وَتَنْدَرِسُ آثَارُهَا . وَهَذِهِ كُلَّ مَا مَضَى عَلَيْهَا زَمَانٌ ازْدَادَ جَمَالُهَا وَعَذُبَ سَلْسَالُهَا , وَرَاقَتْ مَعَانِيهَا , وَزَهَتْ مَبَانِيهَا . وَبَهْجَةُ تِلْكَ مَدِيدَةٌ وَتَنْقَضِي , وَالسَّعَادَةُ بِهَذِهِ لَا تَزُولُ وَلَا تَمْضِي . فَإِنَّ مَعْنَى تِلْكَ فَرْحَةُ سَاعَةٍ وَتَزُولُ , وَمَعْنَى هَذِهِ فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَةُ آدَابِ الرَّسُولِ , وَفِي الْآخِرَةِ الْمَقَامُ فِي دَارِ الْخُلْدِ فِي سُرُورٍ وَحُبُورٍ لَا يَحُولُ , إذَا عَلِمْت هَذَا: فَخُذْهَا بِدَرْسٍ لَيْسَ بِالنَّوْمِ تُدْرِكْنَ لِأَهْلِ النُّهَى وَالْفَضْلِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ (فَخُذْهَا) أَيُّهَا الطَّالِبُ الَّذِي فِي عِلْمِ الْآدَابِ رَاغِبٌ (بِدَرْسٍ) أَيْ بِقِرَاءَةٍ وَرِيَاضَةِ نَفْسٍ وَتَمْرِينٍ . يُقَالُ دَرَسَ الْكِتَابَ يَدْرُسُهُ دَرْسًا وَدِرَاسَةً قَرَأَهُ (لَيْسَ) أَنْتَ (بِالنَّوْمِ تدركن) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (لِ) مَقَامِ (أَهْلِ النُّهَى) بِالضَّمِّ أَيْ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْعِلْمِ جَمْعُ نُهْيَةٍ بِالضَّمِّ أَيْضًا , سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْهَى عَنْ الْقَبَائِحِ (وَالْفَضْلِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ) أَيْ مَحْضَرِ النَّاسِ وَمَجْمَعِهِمْ . ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ رحمه الله تعالى خَتَمَ مَنْظُومَتَهُ بِمَا بَدَأَهَا بِهِ وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ: وَقَدْ كَمُلَتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ دَائِمًا لَمْ يَصْدُدْ (وَقَدْ كَمُلَتْ) هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ , الَّتِي بِمَنْظُومَةِ الْآدَابِ مَوْسُومَةٌ (وَالْحَمْدُ) أَيْ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ (لِلَّهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (وَحْدَهُ) لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ (عَلَى كُلِّ حَالٍ) مِنْ الْأَحْوَالِ مِنْ يُسْرٍ وَعُسْرٍ , وَسَعَةٍ وَضِيقٍ , وَرَخَاءٍ وَشِدَّةٍ , وَسَرَّاءَ وَضَرَّاءَ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ , حَالَ كَوْنِ الْحَمْدِ لَهُ سُبْحَانَهُ (دَائِمًا) مُسْتَمِرًّا فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالشُّؤُونِ (لَمْ يصدد) أَيْ لَمْ يَمْنَعْ وَلَمْ يَصْرِفْ . يُقَالُ صَدَّ زَيْدٌ فُلَانًا عَنْ كَذَا مَنَعَهُ وَصَرَفَهُ كأصده , وَهَذَا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ بَسَطَ بِسَاطَ الْوُجُودِ عَلَى مُمْكِنَاتٍ لَا تُحْصَى , وَوَضَعَ عَلَيْهَا مَوَائِدَ كَرَمِهِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى , وَأَفَاضَ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ مِنْ عَظِيمِ كَرَمِهِ . وَبَاهِي فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ , مَا أَذْعَنَتْ الْأَلْبَابُ الْمُسْتَقِيمَةُ , وَالْقُلُوبُ السَّلِيمَةُ , وَالنُّفُوسُ الْمُطْمَئِنَّةُ , بِالْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ اللَّائِقِ بِعَظِيمِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ , أَطْلَقَ الْحَمْدَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ , وَلِهَذَا قَالَ الْمُصْطَفَى وَهُوَ خُلَاصَةُ الْعَالَمِ وَصَفْوَةُ بَنِي آدَمَ صلى الله عليه وسلم , مُعْتَرِفًا وَمُذْعِنًا " لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك , أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك " فَالْعَبْدُ وَإِنْ أَنْفَقَ جَمِيعَ عُمْرِهِ , وَرُزِقَ أَعْمَارًا مُتَتَابِعَةً , فَصَرَفَهَا جَمِيعًا فِي الثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ . (وَقَدْ آنَ) أَوَانُ قَطِّ عِنَانِ الْقَلَمِ عَنْ الِانْبِسَاطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ الْبَدِيعَةِ , وَالْقَصِيدَةِ الرَّفِيعَةِ , وَلَقَدْ بَذَلْت جُهْدِي فِي تَنْقِيحِ مَسَائِلهَا , وَتَوْضِيحِ دَلَائِلهَا , وَاسْتِخْرَاجِ مَعَانِيهَا , واستدماج مَبَانِيهَا , وَحُسْنِ إدْرَاجِهَا , وَلُطْفِ إنْتَاجِهَا . وَتَشْقِيقِ أَحْكَامِهَا , وَتَرْصِيفِ انْتِظَامِهَا , وَعَزْوِ أَخْبَارِهَا , وَكَشْفِ أَسْرَارِهَا , فَجَاءَ هَذَا الشَّرْحُ كَمَا أَمَّلْته . وَأَعْظَمَ مِمَّا تَخَيَّلْته , وَقَدْ سَهِرْت اللَّيَالِيَ فِي جَمْعِ مَسَائِلِهِ , وَبَذَلْت مَجْهُودِي فِي تَهْذِيبِ دَلَائِلِهِ , وَلَمْ آلُ جُهْدًا فِي زِيَادَةِ تَبْيِينِهِ , وَتَوْضِيحِهِ وَتَمْكِينِهِ , وَجَمْعِهِ وَتَأْلِيفِهِ , وَتَحْرِيرِهِ وَتَصْنِيفِهِ , وَعَزَوْت غَالِبًا كُلَّ قَوْلٍ لِقَائِلِهِ , لِأَخْرُجَ مِنْ مَعَرَّةِ تَبِعَةِ مَسَائِلِهِ . وَإِذَا لَمْ يُسْتَغْرَبْ الْحُكْمُ لَمْ أَعْزُهُ اعْتِمَادًا عَلَى شُهْرَتِهِ . وَمَنْ تَأَمَّلَهُ بِالْإِنْصَافِ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ نَسِيجٌ وَحْدَهُ فِي مَعْنَاهُ . وَفَرِيدُ عِقْدِهِ فِي مَعْنَاهُ . فَهُنَاكَ كِتَابًا جَمَعَ فَأَوْعَى , وَسِفْرًا حَوَى مِنْ الْعُلُومِ فَصْلًا وَنَوْعًا . لَوْ سَافَرْت إلَى صَنْعَاءَ الْيَمَنِ فِي تَحْصِيلِهِ لَمَا خَابَتْ سَفْرَتُك , وَلَوْ تَاجَرْت فِيهِ بِأَعْلَى بِضَاعَتِك لَمَا خَسِرْت تِجَارَتُك . وَقَدْ جَلَبْت إلَيْك فِيهِ نَفَائِسَ فِي مِثْلِهَا يَتَنَافَسُ الْمُتَنَافِسُونَ , وَجَلَيْت عَلَيْك فِيهِ عَرَائِسَ إلَى مِثْلِهَا يُبَادِرُ الْخَاطِبُونَ . فَإِنْ شِئْت اقْتَبَسْت مِنْهُ آدَابًا شَرْعِيَّةً , وَإِنْ أَحْبَبْت تَنَاوَلْت مِنْهُ آثَارًا نَبَوِيَّةً , وَإِنْ شِئْت وَجَدْت فِيهِ نِكَاتٍ أَدَبِيَّةً , وَإِنْ رُمْت مَعْرِفَةَ تَهْذِيبِ النَّفْسِ وَجَدْت أَدِلَّةَ ذَلِكَ فِيهِ وَفِيَّةً , أَوْ مَعْرِفَةَ أَخْبَارِ النَّاسِ ظَفِرْت فِيهِ بِشَذْرَةٍ عَلِيَّةٍ . فَيَا أَيُّهَا النَّاظِرُ فِيهِ , وَالْمُقْتَبِسُ مِنْ مَعَانِيهِ , أَحْسِنْ بِجَامِعِهِ الظَّنَّ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ , فَإِنَّهُ قَدْ زَفَّ بَنَاتِ أَفْكَارِهِ إلَيْك , وَعَرَضَ بِضَاعَتَهُ عَلَيْك , فَلَك مِنْ تَأْلِيفِهِ غُنْمُهُ , وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ وَلَك صَفْوُهُ , وَعَلَيْهِ عُهْدَتُهُ وَهَفْوُهُ . فَلَا يَعْدَمْ عَنْك أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إمَّا إمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ , أَوْ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ . فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَالْبُنْيَانِ , وَالْكَرِيمُ فِي نَظَرِهِ مُنْصِفٌ , وَاللَّئِيمُ مُتَبَجِّحٌ وَمُتَعَسِّفٌ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْبَى الْعِصْمَةَ لِغَيْرِ كِتَابِهِ . وَالسَّعِيدُ مَنْ عُدَّتْ هَفَوَاتُهُ فِي جَنْبِ صَوَابِهِ , وَالْمُنْصِفُ الْكَرِيمُ يُعَادِلُ بِالسَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ , وَيَقْضِي عَلَى كُلٍّ بِحَسْبِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ . وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصْطَفَى عَلَى أَنَّ كُفْرَانَ الْإِحْسَانِ لُؤْمٌ , وَأَخْبَرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ النِّسَاءُ لِكُفْرِهِنَّ النِّعَمَ . فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْفَظُ السَّيِّئَاتِ , وَتَنْسَى الْحَسَنَاتِ . وَلِهَذَا مَثَّلَ حَالَهُنَّ بِحَامِلٍ خَرَجَ عَلَى كَتِفِهِ أَحَدُ شُقَّتَيْهِ صَحِيحَةٌ جَعَلَهَا أَمَامَهُ , وَالْأُخْرَى مُخَرَّقَةٌ جَعَلَهَا خَلْفَهُ . فَإِذَا عَمِلَ الزَّوْجُ مَعَهَا حَسَنَةً جَعَلَتْهَا فِي الشُّقَّةِ الَّتِي إلَى خَلْفٍ , وَهِيَ مَخْرُوقَةٌ فَتَسْقُطُ مِنْهَا فَلَا تَرَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ , وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً جَعَلَتْهَا بِاَلَّتِي أَمَامَهَا وَهِيَ مَحْرُوزَةٌ مَضْبُوطَةٌ , كُلَّمَا نَظَرَتْ رَأَتْهَا . وَهَذِهِ حَالُ جَمِيعِ اللُّؤَمَاءِ , يَحْفَظُونَ السَّيِّئَاتِ , وَلَا يَذْكُرُونَ الْحَسَنَاتِ . فَنَبْتَهِلُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَصُونَ كِتَابَنَا هَذَا عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ , وَهَذَا النَّعْتُ نَعْتُهُ , وَأَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ , وَسَبَبًا لِلْفَوْزِ بِدَارِ الْخُلْدِ وَالنَّعِيمِ , وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ مَنْ قَرَأَهُ أَوْ كَتَبَهُ وَنَظَرَ فِيهِ , وَدَعَا إلَيَّ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَفِيهِ . إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ , رَءُوفٌ رَحِيمٌ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ الْكَرِيمِ , وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ . (وَكَانَ الْخَلَاصُ) مِنْ تَسْوِيدِهِ ضُحَى نَهَارِ السَّبْتِ لِسِتٍّ بَقِيَتْ مِنْ رَبِيعٍ الثَّانِي سَنَةَ 1154 هِجْرِيَّةً عَلَى يَدِ مُؤَلِّفِهِ رحمه الله , وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ , إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ آمِينَ .
|